فصل: سورة المدثر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تيسير التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (20):

{إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)}
أدنى: اقل. يقدّر الليل والنهار: يقدر طول الليل والنهار وقصَرهما ويعلم مقاديرهما واجزاءهما وساعاتهما. فتاب عليكم: فخفّفَ عنكم بأن تصلّوا ما تستطيعون وما تطيقون. فاقرأوا ما تيسّر من القرآن: فصلّوا ما يمكنكم وما يتيسر لكم من صلاة الليل.
ثم تُختم السورةُ بهذه الآية الطويلة وفيها تخفيفٌ ورحمةٌ للمؤمنين. ويقول معظم المفسّرين إن هذه الآية نزلت بعدَ عامٍ من نزول سورة المزمل.
إن ربك يا محمد يعلمُ انك تقوم أقل من ثلث الليل احيانا، وتقوم نصفه وثلثه في بعض الاحيان، وان طائفة من اصحابك كذلك تقوم من الليل كما تقوم انت، والله يقدّر طول الليل والنهار، وهو يعلم انكم لا تستطيعون احصاء اجزاء الليل والنهار (لانه لم يكن عندهم ساعات يضبطون فيها الاوقات). فخفف الله عليكم للاعذار التي تحيط بكم من مرض أو سفر أو جهاد للعدو، ولذلك صلّوا ما تستطيعون من صلاة الليل، وواظبوا على الصلاة وأداء الزكاة. وتصدقوا في سبيل الخير، على الفقراء والمساكين والاعمال العامة.
{وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ الله}.
أي شيء تفعلوه من وجوهِ البرّ والخير والإحسان تلقَوا ثوابَهُ عندَ الله بأضعاف ما قدّمتموه.... فاستغفِروا الله من فعلِ السيّئات والتقصيرِ في الحسناتِ، إن الله غفور رحيم دائماً وأبدا.
وقوله تعالى: {وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله} دليلٌ من دلائل النبوة، لأن الآية مكية، والجهادُ لم يُفرض إلا بعدَ الهجرة.

.قراءات:

قرأ نافع وابن عامر وأبو عمرو: {ونصفه وثلثه} بالجر، والباقون: {ونصفه وثلثه} بالنصب. والحمد لله اولا وآخرا.

.سورة المدثر:

.تفسير الآيات (1- 10):

{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)}
المدّثر: اصلُه المتدثر وهو الذي يتغطَّى بثيابه ويلتفّ بها. أنذِر: حذّر قومك من عذاب الله ان لم يؤمنوا. كبِّر: عظم. وثيابك فطهّر: اعتن بالنظافة في ثيابك وفي نفسك. تقول العرب عن الرجل إذا نكث العهد ولم يف به: انه لَدَنِس الثياب. واذا وفى ولم يغدر: انه طاهرُ الثوب. فالمطلوب: تطهير النفس والثياب والجسم. الرجز: الذنب، وكل محرّم، وعبادة الاوثان. ولا تمنن تستكثر: لا تمنَّ بعملك على غيرك، ومعنى تستكثر: لا تستكثر ما أعطيتَ وبذلت. الناقور: الصور الذي ينفخ فيه يوم القيامة.
يا أيها الذي تدثَّر بثيابه رعباً وخوفاً من رؤية الملَكِ، قُمْ وشمِّرْ عن ساعِدِ الجد، وأنذِر الناسَ عذابَ يوم عظيم، وادعُهم إلى الدِين القويم، ولْيتركوا عبادةَ الأوثان وما عندهم من الخرافات.. ادعُهم إلى معرفة الحق لينجُوا من هول شذلك اليوم العظيم.
{وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}
عظّم ربك، وخُصَّه وحدَه بالتعظيم. وطهِّر ثيابك وجسمك ونفسَك، والطهارةُ اساسٌ عظيم في دين الاسلام.
يقول الاستاذ بثنام في كتابه أصول الشرائع: إن كثرةَ الطهارة في دين الإسلام تدعو معتنقية إلى رقيّ الأخلاق والفضيلة إذا قاموا باتّباع أوامره خير قيام.
{والرجز فاهجر....}
اهجر المعاصي والآثام وابتعدْ عن الغرور والمنِّ فيما تعلِّمُ وتعطي، ولا تمنُنْ على أصحابك فيما تعلّمهم وتبلّغهم عن الوحي مستكثراً ذلك عليهم، ولا تستكثر أي شيء بَذَلْتَه للناس، لأن الكريم يستقلُّ ما يُعطي وان كان كثيراً، وأعطِ عطاءَ من لا يخاف الفقر. وفي هذا تعليمٌ لنا أ، نعطيَ ما استطعنا من غيرِ منٍّ ولا أذى.
{وَلِرَبِّكَ فاصبر}
اصبر في أداء رسالتك على أذى قومك، ابتغاءَ وجه ربك، ولا تجزَعْ من أذى من خالفَك.
وبعد أن وجّه اللهُ الرسولَ الكريم إلى التحلّي بمكارم الاخلاق، والبعدِ عن الجفاء والسَّفَه وكلِّ ما لا يليق بأصحابِ المقامات العالية- أتى بوعيدِ الاشقياء وما سيلقونه من عذابٍ فقال: {فَإِذَا نُقِرَ فِي الناقور فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الكافرين غَيْرُ يَسِيرٍ}.
فاذا جاء وعدُ ربك ونُفخ في الصُّور فذلك اليومُ يومٌ شديد الهول على الكافرين، غيرُ هيّنٍ ولا يسير، وليس له مثيل {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى الناس سكارى وَمَا هُم بسكارى ولكن عَذَابَ الله شَدِيدٌ} [الحج: 2]. هل يوجد اعظم من هذه الصورة لذلك اليوم؟ حسبنا الله ونعم الوكيل!!

.تفسير الآيات (11- 31):

{ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآَيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31)}
ذرْني ومن خلقتُ وحيدا: اتركني واياه ولا تشغل قلبك به. وهذا الفعل لا يستعمل منه الا فعل الأمر والمضارع، فلم تستعمل العرب منه الفعل الماضي. ذرني وفلانا: كِلْه إليّ.... وحيدا: خلقته في بطن امه وحيدا لا مال له ولا ولد. وكان يقال للوليد بن المغيرة: الوحيد، لانه وحيد في قومه، فمالُه كثير، من إبلٍ وخيل وغنم وتجارة وزرع وعبيد وله عشرة ابناء إلخ.... ممدودا: كثيرا. شهودا: حضورا معه يتمتع بمشاهدتهم. ومهّدت له تمهيدا: بسطت له الرياسة والجاه العريض. سأرهقه صعودا: ساكلفه عقبة شاقة لا تطاق، وهذا كناية عن العذاب الشديد. وقدَّر: هيأ ما يريده. فقُتل كيف قدر: لعنه الله كيف قدّر ما قاله من الطعن في القرآن. عبس: قطب ما بين عينيه. وبَسَر: كلح وجهه وظهرت الكراهية عليه. سِحر يؤثر: ينقَل ويروى. سأصليه سَقر: سأُدخله في جهنم. لا تبقي ولا تذر: لا تبقي لحما، ولا تترك عَظماً الا أحرقته. لواحة للبشر: تسوِّدُ بشرتهم. عدّتهم: عددهم. فتنة: اختبار وامتحان. ذكرى: تذكرة وموعظة للناس.
في هذه الآيات عرضٌ لذِكر أحدِ زعماء قريش الكبار، هو الوليدُ بن المغيرة. وكان من اكبر أثرياء قريش ورؤيائها، يُقال له (العَدْل) لأنه كان عَدْلَ قريشٍ كلّها، إذ كانت قريش تكسو البيتَ، والوليد يكسوه وحدَه. وكان ممن حرَّم الخمرَ في الجاهلية، ولكنه أدركَ الإسلامَ وهو شيخٌ كبير وعادى النبيّ عليه الصلاة والسلام وقاوم دعوته بشدّة. وقد سمع القرآنَ وتأثر به وقال عنه: لقد سمعُ من محمدٍ كلاماً ما هو من كلام الإنس، ولا من كلام الجن.. والله إن لَه لحلاوةً، وان عليه لَطلاوة، وإن أعلاه لمثْمِر، وان أسفلَه لَمُغْدِق، وانه يعلو ولا يُعلى عليه.
ومع ذلك فقد بقي على عنادِه وكفره وجمع قريشاً وقال لهم: إن الناسَ يأتونكم أيامَ الحج فيسألونكم عن محمد، فتختلف أقوالكم فيه، فيقول هذا: كاهنٌ، ويقول هذا: شاعر، ويقول هذا: مجنون، وليس يُشبه واحداً مما يقولون. ولكن أصلَحُ ما قيل فيه أنه ساحر، لأنه يفرق بين المرء وأخيه والزوج وزوجته. وقد مات بعد الهجرة بثلاثة أشهر، وأسلمَ من اولاده خالدُ بن الوليد وهشام وعمارة، والوليدُ بن الوليد.
دَعني ومن خلقتُه وحيداً فإني سأكفيكَ أمره، هذا الذي أنعمتُ عليه بمالٍ كثير، وعَشَرة بنين يحضرون معه المحافلَ ويتمتع بمنظرهم و{وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً} وبسطتُ له الرياسةَ والجاه العريضَ والسيادة في قومه، فكان سيّداً مطاعاً عزيزا، ثم يطمع ان أَزيدَ في ماله وبنيه وجاهه بدون شكر، {كَلاَّ} لا أفعلُ ولا أزيدُ. وقال المفسّرون: وقد تبدّلت حال الوليد بعد نزول هذه الآية وماتَ على أسوأ حال.
{إِنَّهُ كان لآيَاتِنَا عَنِيداً}
انه كان للقرآن معانِدا مكذِّبا.
{سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً}
سأكلفه عذاباً شاقاً لا راحة فيه.
{إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ}
انه فكر وزوّر في نفسه كلاما في الطعنِ في القرآن بعدما سمعضه وأعجبه، قاتلَه الله ولعَنه، كيف قدّر وقال لقريش إن محمّداً ساحر، وان هذا القرآن سِحر يؤْثَر ويروى.
{ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ واستكبر}
ثم نظر في وجوه الناس، ثم قطَب وجهه وزادَ في كُلوحه، ثم أعرضَ عن الحق الذي عرفه، وتعاظَمَ ان يعترفَ به {فَقَالَ إِنْ هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ} ينقله الرواة عن الأولين، ونقله محمد عن غيره ممن كانَ قبلَه من السحرة.
{إِنْ هاذآ إِلاَّ قَوْلُ البشر}
ما هذا الا قولُ الخلق تعلَّمه محمدُ وادّعى أنه من عند الله.
ثم بين الله تعالى ما هو جزاؤه يوم القيامة فقال: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ لاَ تُبْقِي وَلاَ تَذَرُ لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ}
سأدخِله جهنم ليحترقَ بها ويذوقَ أشدّ العذاب، وما أدراك ما جهنم؟ إنها لا تبقي لحماً ولا تترك عظماً الا أحرقَتْه، تأكل الأخضَر واليابسَ كما يقولون، وانها تُلَوِّحُ الوجوهَ والبشرةَ وتسوِّدُها، عليها تسعةَ عشرَ من الملائكة موكَّلون بها، كما جاءَ في قوله تعالى ايضا: {عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6].
{وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَابَ النار إِلاَّ مَلاَئِكَةً....}.
وما جعلْنا خزنةَ النار الا ملائكةً تقدَّم وصفُهم بالشِدة والغِلظة، وما جعلنا عِدَّتَهم تسعةَ عشر الا فتنةً واختبارا للذين كفروا، وذلك.
{لِيَسْتَيْقِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب}.
ليحصل اليقينُ لليهود والنصارى بنبوة محمدٍ لموافقةِ ما جاءَ في القرآن لكتُبهم، فقد شهِدَ عددٌ من علماءِ اليهود والنصارى آنذاك ان عدَّةَ الخزنة تسعةَ عشر.
{وَيَزْدَادَ الذين آمنوا إِيمَاناً}.
ولكيَ تطمئن قلوبُهم بذلك، ولا يشكّ أهلُ التوراة والإنجيل والمؤمنون بالله في حقيقةِ ذلك العدد.
{وَلِيَقُولَ الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ والكافرون مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً}.
وليقول المنافقون والمشركون الكافرون: ما الذي أراده اللهُ بهذا العدَدِ المستغرَبِ استغرابَ المثل؟
{كَذَلِكَ يُضِلُّ الله مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ}.
والله تعالى كما أضلَّ المنافقين والمشركين يُضِلُّ مِنْ خلْقه من يشاءُ فيخذُله عن إصابة الحق، ويهدي من يشاء منهم فيوفّقه إلى الخيرِ والهدى. وما يعلم جنودَ ربّك ومقدارهم إلا هو سبحانَه وتعالى. {وَمَا هِيَ إِلاَّ ذكرى لِلْبَشَرِ} وما سَقَرُ إلا تذكرة للبشَر وتخويفٌ لهم.

.تفسير الآيات (32- 56):

{كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآَخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)}
كلاّ: تأتي لمعانٍ أربعة:
الأول: إن تكون للردع والزجر، وهو الغالبُ في استعمالها، مثل قوله تعالى: {قَالَ أَصْحَابُ موسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 61، 62] والمعنى انتهوا عن القول.
الثاني: إن تكون للرد والنفي فتردّ شيئا وتثبت آخر مثل ان يقول المريضُ الذي لم يعمل ينصح طبيبه: شربتُ ماء، فيقول الطبيب: كلا، بل شربتَ لبنا. معناه ما شربت ماء، ولكنْ شربتَ لبنا.
الثالث: تكون بمعنى ألا، يُستفتح بها الكلامُ للتنبيه، مثل قوله تعالى: {كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى أَن رَّآهُ استغنى} [العلق: 6، 7].
الرابع: إن تجيء جواباً بمعنى حقاً وتكون مع القسَم، مثل قوله تعالى هنا: {كَلاَّ والقمر} ومعناه حقاً، وأُقسم بالقمر إلخ....
أدبر: ولى. أسفر: اضاء. انها لإحدى الكبر: غن جهنم لاحدى الدواهي الكبيرة. رهينة: مرتهنة بعملها. ما سَلككم: ما ادخلكم. نخوض مع الخائضين: نخالط أهل الباطل في باطلهم وكثر من الكلام الذي لا خير فيه. حتى أتانا اليقين: حتى اتانا الموت. مستنفرة: نافرة، هاربة. القسورة: الأسد. منشَّرة: منشورة.
كلا: لا سبيلَ لكم إلى إنكار سقَرَ وصفتها المخيفة. وأُقسِم بالقمر، وبالليلِ إذا ولّى وذهب، وبالصُّبح إذا تبلّج وأضاء- إن جهنّم لإحدى البلايا الكبار والدواهي العِظام لإنذار البشَر لمن شاءَ ان يقبلَ الإنذارَ أو يتولّى عنه.
وهذا تهديد وإعلام بأن من تقدم إلى الطاعة والايمان بمحمد صلى الله عليه وسلم جازاه الله بثواب لا ينقطع ابدا، ومن تأخر عن الطاعة ولم يؤمن بمحمد عوقب عقابا لا ينقطع ابدا.
{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}
فهي محبوسة بعملها، مرهونة عند الله بكسْبها. {إِلاَّ أَصْحَابَ اليمين} لأنهم فكّوا رقابَهم بحُسْنِ أعمالهم، وبطاعتهم وإيمانهم.. ولذلك فانهم {فِي جَنَّاتٍ يَتَسَآءَلُونَ عَنِ المجرمين}؟.
فقد جزاهم الله أحسنَ الجزاءِ فهم في غرفاتِ الجناتِ يسألُ بعضهم بعضاً عن المجرمين. ويقولون لهم: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ؟} ما الذي أدخلكم جهنم؟ فاجابوهم أن هذا العذابَ الذي هم فيه سببه اربعة أمور:
الاول: {قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ المصلين} لم نصلِّ مطلقا لاننا لم نكن نعتقد بوجوب الصلاة علينا.
الثاني: {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ المسكين} ولم نكن من المحسنين، ولم نتصدق بفضل اموالنا على الفقراء والمساكين.
الثالث: {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الخآئضين} وكنا لا نبالي بالخوض في الباطل مع من يخوض فيه، ونكثر من الكلام الذي لا خير فيه: في حق محمد واصحابه، وفي امر القرآن فنقول انه سحر وشعر وكهانة.
الرابع: {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدين} وكنا نكذب بيوم القيامة، ولم يؤمن بالبعث والنشور والجزاء والحساب، {حتى أَتَانَا اليقين} حتى جاءنا الموت فعرفنا اننا كنا في ضلال تائهين.
ولذلك قال الله تعالى معقبا على اعترافهم بجرمهم {فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشافعين} فهم بعد اتصافهم بهذه الصفات واعترافهم بجريمتهم لا يمكن ان يشفع لهم احد، لأن لهم النار خالدين فيها ابدا.
ثم اكد توبيخهم والتقريع عليهم بقوله: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ؟}
فما لهم عن التذكير بالقرآنِ والعظة به منصرفين، كأنهم حميرٌ فرَّت من اسدٍ يطاردُها ليفترسَها.
ثم بين انهم بلغوا في العناد حداً لا يتقبله عقل، فقال: {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امرئ مِّنْهُمْ أَن يؤتى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً}
فكل واحدٍ منهم يريد ان ينزِلَ عليه كتابٌ مفتوح من السماء. وكانوا يقولون: إن كان محمد صادقاً فليصبحْ عندَ رأسِ كل واحدٍ منا صحيفةٌ فيها براءة من النار (كلا): زجرٌ وتوبيخٌ على اقتراحهم لتلك الصحف، {بَل لاَّ يَخَافُونَ الآخرة} لانهم لم يؤمنوا بها. {كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ} حقا ان القرآن تذكرة بليغة ك افية، فمن شاء ان يذكره ولا ينساه فعل.
وما يذكرون الا بمشيئة الله، هو أهل لأن يتقى، وأهل لان يغفر لمن اتقاه.. بابه مفتوح دائما. والحمد لله رب العالمين.

.قراءات:

قرأ الجمهور: {اذا دبر} إذا بالف بعد الذال، ودبر بوزن ضرب. وقرأ نافع وحمزة وحفص: {اذ ادبر}، اذ بسكون الذال، وأدبر بوزن أكرم. ودبر وأدبر لغتان.